كوفيد 19: الفيروس الذي أعاد ترتيب الطقوس الدينية

ديانا الزين | الدبلوم الجامعي في الأديان والإعلام


 دير يسوع الفادي، زحلة

في حدث غير مسبوق من نوعه، أقفلت دور العبادة من مساجد وكنائس ومعابد في أكثر من مئة و سبعون دولة. وآخر مرة اتخذ هكذا اجراء عالميا كان في سنة  1918، يوم تفشي الانفلونزا الاسبانية (الحرة،  26 –اذار-2020 ).  وقد  اتخذت وزارة الصحة العالمية هذا القرار بعد انتشار فيروس كورونا أي ما سمي بكوفيد 19،  في ووهان الصينية في كانون الأول 2020. وفي هذا الاطار، نفذت تلك الإجراءات من قبل السلطات في تلك الدول، حتى تلك التي تعتمد على السياحة الدينية كإيطاليا وايران. فكما يقول المثل:” مرغم أخاك لا بطل.” لكن أليست البطولة في درء المرض وشبح الموت مهما كانت الإجراءات؟ وهل يهتم الدين بالقشور في دور العبادة ولا ينظر الى جوهر الايمان ؟ وهل العلاقة بالله هي طقوس وتكرار لتلك الطقوس فقط؟

لم يكن قرار الغاء الطقوس الدينية والاحتفالات بسيدة البشارة في لبنان خيارا سهلا، لكنه الوحيد لإنقاذ البلاد من انتشار الفيروس أو الموت المحتم . وألغيت أيضا مسيرة القربان في عنايا بمناسبة عيد سيدة البشارة، إضافة الى  مسيرة اللقاء الإسلامي المسيحي لنفس المناسبة.

في شمال إيطاليا، ألغيت كل الطقوس التي تؤدي الى تجمعات حتى شهر نيسان. إضافة الى الاحتفالات  التي كانت مقررة في بازيليك القديسة مريم ،التي بنيت كنذر لانتهاء الطاعون الذي اجتاح المنطقة في القرن السابع عشر(الجزيرة، 13/3/2020). لكن أحد أساقفة ميلانو رأى في ذلك كمن ينظر الى صورة موقد بدل من أن يجلس قربه.  كما  ألغى البابا فرنسيس سر الاعتراف عند الكاهن، ويقول في عظته أمام الأساقفة:” فلتكن علاقتك مباشرة مع الله، أغمض عينيك بخشوع واعترف أمامه بخطاياك وعبر عن ندمك وتوبتك.” (نشرها جوزيف قرداحي-صحافي-على صفحته)

أما في ايران، فقد أقفلت جميع المقامات في قم ومشهد، بالرغم من تدافع المعارضين واقتحام الأضرحة رفضا لإقفالها. .كما أقفلت السعودية المسجد الحرام والمسجد النبوي، لاغية بذلك موسمي الحج والعمرة.

الأب ايلي صادر، رئيس دير يسوع الفادي – زحلة، يرى أن الطقوس هي تعبير خارجي عما يجول بالقلب من تعبير عميق جدا للاهوت معين أو مفهومية معينة  أو عقيدة معينة. عندما تتواجد عوائق مجبرة تمس بصحة أو كرامة الانسان، لا نستطيع أن نجرب الله كما قال السيد يسوع المسيح:” لا تجرب الرب الهك. الرب يستطيع أن يشفينا لكننا لا نقوم بخطوة مؤذية فنتحمل مسؤولية الأذى. وهو ما يعرف بالمسيحية بصراع الريتوس والميتوس (كلمتان يونانياتان قديمتان تشيران الى الطقوس والخرافة).

ومن الناحية الإسلامية، يؤكد الشيخ حسين غبريس من تجمع علماء المسلمين، أن الدين الإسلامي، وسواه من الديانات السماوية، يلحظ مصلحة الفرد والمجتمع، ومصلحة الانسان بالأخص على ما عداه من المصالح.  لذلك  لا نستغرب أن الإسلام كدين، يتعاطى مع المسائل المستجدة والاحداث الطارئة كالنكبات والزلازل والمشاكل  الصحية والبيئية نظرة متميزة.  وبالتالي ليس من المستغرب اقفال المساجد حتى على مستوى الصلاة الفردية فضلا عن الجماعة والجمعة.

دكتور طلال عتريسي، أستاذ العلوم الاجتماعية  في الجامعة اللبنانية، يرى أن تغيير الطقوس أو الشعائر الدينية مثل صلاة الجمعة أو الذهاب الى الكنائس، يرتبط بأمرين. الأمر الأول هو  المناخ العام الموجود في المجتمع، هناك مناخ عام من الخوف، من التجمعات ومن اللقاءات وبالتالي هذا القرار لا يثير أي استنكار أو أي استغراب. والنقطة الثانية، هناك تبديل في الأولويات وهذا القرار هو تكيف مرن وواع ومنطقي مع هذا التبديل، فالأولوية أصبحت لصحة الانسان. فاذا كان انسان عارف أن صلاة الجمعة تقضي الى اصابته بأمراض تقتل ، صلاته لا قيمة لها اذا استمر بها. نفس الأمر لاماكن العبادة الأخرى كالكنائس. الانسان هو الأولوية والشعائر هي في خدمته. ما جرى في لبنان وفي السعودية أو ايران أو إيطاليا هو تكيف مع الأولويات

كتب أنطون سعادة ما يلي:” حينما تضاربت مصلحة المجتمع، الدولة والأمة ، ومصلحة الدين، كانت مصلحة المجتمع هي الفاصل في النزاع.” في زمن الكورونا، أقتبس عن أحد الأصدقاء اللبنانيين  الذي يعيش في ألمانيا، فرنسوا بن دياب، أن كورونا فتح ثقبا في المنظومات الدينية كافة، فيسأل الكثيرون عن جدوى المليارات التي هدرت في تزيين دور العبادة بالذهب والأحجار الكريمة ولو أننا استثمرناها في مشافي متطورة ومختبرات طبية تنفعنا في هكذا كوارث.

ربما علينا خلال هذه الأزمة وبعدها ، أن نعيد النظر في جميع الطقوس، ربما تغيير بعضها أو تقليل البعض الآخر وتبديله بما هو أقرب الى الله من تلك الممارسات.  ان غدا لناظره قريب. دمتم بصحة وأمان.


وسط  البلد- بيروت لبنان-جامع الامين

التعليم الديني في لبنان: نعمة أم صندوق “باندورا”؟

حسنا بو حرفوش | الدبلوم الجامعي في الأديان والإعلام

قد لا يخطر ببال أحد بأن لبنان الذي يتغنى بالتعددية والتلون الطائفي والمساحة المكرسة ظاهريا “للآخر” يعاني من نقمة كل هذه النعم. فبلد الأرز مقسوم بين 18 طائفة تضم أقليات كبرى وأقليات صغرى. ويعود هذا التنوع لجذور تاريخية وسنين طويلة من اللجوء والهجرة والتنقل بداعي العمل إلى هذه الضفة من البحر الأبيض المتوسط (للمزيد بالإمكان قراءة بحث مارون حداد حول الطوائف- ارشيف جريدة الشرق الاوسط) ولا يمكن الكلام عن بلد بهذه التعددية وهذا الاختلاف الطائفي دون طرح السؤال حول التربية والتعليم الديني خصوصا على مستوى المدارس. فما هو واقع هذا التعليم؟ “موضوع شائك وخطر داهم” هي العبارة التي يجمع عليها ذوو الاختصاص من خلال إجابتهم على عدد متشعب من الأسئلة تستطلع صوت الاعتدال متمثلا بمشروع عابر للطوائف وترتبط بالأحداث الدموية التي طبعت تاريخ لبنان الحديث (الحرب الأهلية) ونظرة القانون لمشروع التعليم الديني. فالتعليم الديني يكاد يشبه حقلا للألغام لناحية استثماره من قبل الجماعات ذات الميول الطائفية والسياسية الواضحة والتي تسعى من خلاله للتعبئة حتى نراه يتجسد بشكل صارخ في بعض المدارس بينما يكاد يختفي في البعض الآخر…

التعليم الديني: التناقض على الأرض وصوت الاعتدال

لقد شهد لبنان في السنوات الماضية عددا متزايدا من المنتديات التعليمية التي ناقشت قضية التعليم الديني في البلاد وعلى أن المشاركين أجمعوا دائما على ضرورة التمسك بهذا التعليم بصفته ناقلا للمنظومة الأخلاقية وللقيم التي تثري تربية الأجيال القادمة، إلا أن الديبلوماسية تبقى سيدة الموقف.  فعلى الأرض تختلف الأصوات كثيرا خصوصا فيما يتعلق بالمدارس التي تضم طلابا من انتماءات دينية متلونة. تقول زينة التي تلقت تعليمها في إحدى المدارس “المحسوبة على الطائفة المسيحية”: “في الصف ثلاثون تلميذا تقريبا من أديان مختلفة ولم تكن حصة الدين للجميع. في الواقع، كنا نخرج إلى الملعب بينما يتلقى زملاؤنا حصتهم الدينية الأسبوعية. قيل لنا حينها أننا لا نشارك (وقد كانت لنا مطلق الحرية بالمشاركة) نزولا عند طلب الأهل الذين خافوا من تأثير هذه الدروس على إيماننا”.

ولا تقتصر تجليات هذا الانقسام على الطلاب فهي تتجسد مع الأسف في الجسم التعليمي حيث قد لا نجد في بعض المدارس الدينية تقبلا لإدماج أساتذة من دين آخر أو من “درجة تديّن أقل” خصوصا وأن المدارس غالبا ما تتواجد في مناطق تضم الأكثريات الدينية التي تشبهها. تروي فاطمة التي حصلت للتو على شهادتها الجامعية: “بدأت بالبحث عن المدارس الأقرب لمنزلي للتدرب قبل التقدم بطلب للعمل. عملت في إحدى المدارس ذات التوجه الإسلامي. لم يسمح لي بوضع الماكياج أو بطلاء أظافري ولا بارتداء الكعب العالي أو بتزيين شعري مع أن المادة التي أعطيها لا علاقة لها بالدين”. والمشكلة لم تطل الطلاب فقط وإنما امتدت لتشمل بعض الأهالي الذين يمتعضون من “الضغط عليهم خلال اجتماعات الأهل وتقديم النصائح لهم بخصوص الأمور الشخصية كالملبس”.

في غمرة هذا التناقض بين الدعوات للحفاظ على منظومة القيم والتطرف في التطبيق على الأرض، كان لا بد من البحث عن صوت الاعتدال المتمثل حاليا في المشاريع الساعية لإيجاد مساحة مشتركة بين الأديان في جميع المجالات. الباحثة والأستاذة الجامعية ديانا ملاعب التي أمضت سنينا وهي تؤسس وتعمل على هذا النوع من المشاريع، تصارح بتحفظها على “التعليم الديني ضمن المقرر الدراسي…لأن المضمون والأطر المتبعة خاضعة لمزاج وتوجه كل إدارة مدرسية طالما أن الدستور كفل للطوائف هذا الحق …وطالما ان نسبة كبيرة من مدارسنا تابعة للطوائف… والقسم الاكبر منها يعتبر ان التعليم والتربية الدينية جزءا هاما من رسالتها التربوية، نلحظ أن هذه الصفوف تفرض كجزء من المنهج على كثير من التلاميذ الذي لا يرغب أهلهم بها أو لأنهم من طوائف أخرى… بل في أحيان كثيرة يتم وضع علامات على مادة التعليم الديني وتحتسب من  ضمن مجموع العلامات ولكافة التلاميذ ولو كانوا من ديانة أخرى.”

كلام ملاعب يعيد توجيه البوصلة نحو قضية هامة يتوقف عليها التعليم الديني: المناهج. وهنا يبدو هذا النوع من التعليم سيفا يمتلك حدين، فالحاجة ملحة لضبط المناهج من جهة ولكن من جهة أخرى تطرح الإشكالية حول المرجعية الرسمية الحقيقة التي يمكن تكليفها بهذا الموضوع لتوجيه الأساتذة والطلاب على حد سواء.  تقول ملاعب: “التعليم الديني واقع معاش…وتتحدد مضامينه عادة بما توافق عليه المرجعيات الدينية المسؤولة. لكن الحلقة الأهم تبقى الأستاذ الذي يقدم المضمون الديني وفي أية أطر ومسارات يأخذ تلاميذه”.

من التعليم الديني إلى الثقافة الدينية

فإذا، الموضوع مرتبط بالهدف من التعليم الديني بادىء ذي بدء. فهل التعليم الديني وسيلة للتربية على المحبة واحترام الآخر أم وسيلة لتغذية الاحتقان المذهبي والتشكيك بمعتقدات شركاء الوطن؟ أصوات الاعتدال تنادي على سبيل ملاعب لـ”استثمار التعليم الديني عبر إدخال مفاهيم كالتنوع والتعددية والمواطنة وقبول الآخر  الخ…. ضمن الصفوف  لكونها مفاهيم جامعة وعالمية وإنسانية  مشتركة”. كما تقترح “تخصيص ساعات’ للثقافة الدينية’ أو ‘علم الاديان’ للتعرف على الأديان والطوائف الأخرى داخل كل بلد، وعن الأديان والثقافات في العالم ككل، ليتعرف التلاميذ على الآخر من دون نمطيات وأفكار مسبقة وليثمنوا التعددية التي نعيشها اليوم في زمن التواصل اللامحدود”.

وتتقاطع آراء الساعين لأيجاد مساحة مشتركة بين الأديان لناحية التركيز على الأديان كمنبع للأخلاق. انطلاقا من توصيات مركز “تموز” للمواطنة، تشدد الباحثة والأستاذة الجامعية والحقوقية د. ماريلين كرم (التي تشرح لنا جذور المشكلة من الناحية القانونية في القسم الثاني من المقال) على ضرورة تطبيق اقتراح “إجراء مسح كامل على كافة المدارس الرسمية والخاصة لجهة مضمون حصص التعليم الديني وعلى توزيع هذه الحصص وعلى الأهداف منها للوصول إلى إمكانية إيجاد سياسة عامة ووضع استراتيجية عامة مشتركة تستند على القيم المشتركة بين كافة الأديان والطوائف باعتبارها حدا أدنى يشكل الانتظام العام اللبناني الذي لا يجوز الإخلال به”.

وتقع هذه النقطة في قلب اهتمامات عميد الدراسات الإسلامية في إحدى الجامعات اللبنانية ورئيس منتدى الاعجاز العلمي في القرآن والسنة في لبنان، د. محمد فرشوخ الذي يشدد على أن “النقطة الأساسية في التعليم الديني هي أنه إن لم يخدم غايات إنسانية إجتماعية فهو حكما تعليم تحريضي”. ولذلك، يدعو من خلال عدد من المشاريع على ضبط إيقاع الحل من خلال التركيز على المادة الثقافية والتاريخية التي يمكن أن يؤمنها التعليم المدروس والمستنير والذي لا يمس بإيمان أو بروحية العلاقة الخاصة بين الإنسان والله.

لبنان بلد الطوائف المتناحرة: تجربة الحرب الأهلية

وتعيدنا التجربة اللبنانية التي يفترض أن تتسم بالتعددية إلى الرفض المنهجي للآخر وصولا إلى محاولة إلغائه. ويترجم هذا الأمر على أرض الواقع بنقطتين رئيسيتين: عدم القدرة على التوافق على كتاب تاريخ موحد والتفاوت في التعليم الديني لناحية البرنامج المعتمد إن توفر وخضوعه على غرار المؤسسات الإعلامية للسلطة السياسية البروباغندا الخاصة بها.

أما بالنسبة للجدل حول كتاب التاريخ فهو مهم جدا في هذا السياق لسبب رئيسي وهو أن غيابه يرتبط بالأسباب نفسها التي قد تجعل من درس الدين صندوق “باندورا” يفتح الباب لخلافات كبيرة حول المفاهيم الدينية وطريقة استثمارها. والحق إنما الحرب الأهلية التي دامت 15 عاما ولا تزال نارها مستعرة تحت الرماد، اندلعت بثوب طائفي وانتهت بتقسيم مناطقي في لبنان بحسب الأكثريات الدينية التي تسكنها. مع الإشارة إلى أن جذور التعليم الديني تعود بحسب بعض الخبراء إلى ما قبل الحقبة العثمانية.

الصورة 2- اندلعت الحرب الأهلية في 13 نيسان 1975 ولم تنته حتى توقيع اتفاق الطائف في العام 1989

ومع ذلك نركز ههنا على الحرب الأهلية التي غيرت وجه لبنان وما تبعها من تقسيم للمؤسسات (ضمنها الإعلامية طبعا) بصبغة طائفية سياسية إذ أن السياسة دخلت من باب الدين حتى بدا أن الدروس الدينية مدخل لتشرب عقيدة الأحزاب، وخير دليل الصور الشائعة لسياسيين بجانب رموز دينية تضفي على خطاباتهم المزيد من الشرعية. أضف إلى ذلك أن العديد من المدارس الخاصة ممولة من جمعيات دينية ذات خلفيات مذهبية واضحة (نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، المقاصد الخيرية الاسلامية والجماعة الإسلامية في الأوساط السنية والإرساليات المسيحية التبشيرية ومبرة الإمام الخوئي والإمام الخميني وجمعيات المصطفى في الأوساط الشيعية، حيث يمكن للتفوق المدرسي أن يقود للفوز برحلة دينية إلى الأراضي الإيرانية).

على الأرض، يغيب في التعليم الرسمي منذ البدء، التكافؤ في تقديم خدمة التربية الدينية في العديد من المؤسسات التربوية الرسمية. يأسف د. فرشوخ في هذا السياق، للفروقات على مستوى التعليم الديني إن توفر لناحية اختلاف المناهج المقدمة والتي قد لا تأخذ بعين الاعتبار اختلاف الطوائف”.  كما يسطّر “الإهمال الكبير على مستوى التعليم الديني في المدارس الرسمية والمشاكل الحقيقية التي تنتج عنها من نقص تغذية التكافل والتضامن الإجتماعي مقابل الاستثمار التحريضي لطرف ضد الطرف الآخر”. ولذلك أخذ على عاتقه مشروعا تعليما هادفا لتغيير صورة الإسلام السياسي والتركيز على الموضوع الإنساني الذي يغلب على الطابع الديني وتصحيح المفاهيم الخاطئة”.

القانون والتعليم الديني في بلاد الأرز: ديكتاتورية الطوائف؟

أما من الناحية القانونية، تحتل الحريات العامة وفي مقدمها حرية المعتقد مساحة كبيرة في الدستور اللبناني، وتنص الفقرة “ج” من مقدمته على أن ” لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة، وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل. ” كما تؤكد المادتان التاسعة والعاشرة من الفصل الثاني على “حرية الاعتقاد مطلقة والدولة بتأديتها فروض الاجلال لله تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب وتكفل حرية اقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها على أن لا يكون في ذلك اخلال في النظام العام وهي تضمن أيضاً للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية.” وتؤكد المادة العاشرة على حرية التعليم “ما لم يخل بالنظام العام أو ينافي الآداب أو يتعرض لكرامة أحد الاديان أو المذاهب ولا يمكن أن تمس حقوق الطوائف من جهة إنشاء مدارسها الخاصة، على أن تسير في ذلك وفقاً للأنظمة العامة التي تصدرها الدولة في شأن المعارف العمومية.”

ولأن “مقاربة المشترع للمجتمع تبدأ من التعليم” كما تلفت د. كرم، كان لا بد من استطلاع وجهة النظر القانونية لهذا الموضوع. فماذا عن المراسيم المرعية؟ بحسب كرم، كشفت التجربة حول رسم السياسات العامة المتعلقة بالتعليم الديني نوعا من “التسرع لجهة القوانين والأعراف دون وجود مخطط استراتيجي كامل لسياسة عامة تأتي ضمن إطارها المراجع والقوانين وكافة المصادر القانونية المرعية الإجراء”.

ويبدو أن نصوص الدستور لا تتقاطع مع النظام الديمقراطي شكليا والذي تعتبره كرم في المضمون انعكاسا لـ”ديكتاتورية الطوائف”، بالاستناد إلى أمثلة من الدستور الأول الصادر في العام 1926 والذي ذكر بشكل واضح بأن التعليم حر ولا يمكن أن يمس بحقوق الطوائف من جهة إنشاء المدارس الرسمية أو الخاصة. وتلفت في المادة التاسعة، انطلاقا من سلطة الدستور على كل سلطة أخرى، إلى الإقرار الواضح لحقوق الطوائف وبالتالي يتضح أن “الدولة اللبنانية سمحت لكل الطوائف بامتلاك منظومة تشريعية دينية معينة وحتى تعليمية وتثقيفية وهذا ما قد يشكل خطرا داهما لأننا نتحدث عن مجتمع وعن سياسة عامة يفترض أن تكون محصورة بيد الدولة”. وقد كرس هذا الترخيص بوثيقة الطائف التي انتهت الحرب الأهلية في العام 1989.

كما تسطّر كرم “مرحلة جديدة في تاريخ لبنان كرست في البند الثالث من الفقرة “ب” من وثيقة الطائف التي تؤكد على ضرورة الانسجام بين الدين والدولة وعلى حرية التعليم الديني وهو أمر خطير جدا”. وتنطلق من التسلسل التاريخي لتركز على “خطة النهوض التربوي في العام 1996 مع محاولة تحديث المناهج التربوية التي شددت مجددا على النظرة الدينية وتلقين الشعائر الدينية الى الطلاب من مختلف اطياف الشعب اللبناني”.

وتضيف: “لا بد من ذكر مسألة أساسية، على الرغم من التأكيد على أهمية الشعائر والتربية الدينية هناك شيء لافت في المخطط وهو عدم التأكيد على إلزامية التعليم الديني في المدارس الرسمية وهذه نقطة غاية في الأهمية بالإضافة إلى غياب توزيع الساعات في هذا الإطار ومن ثم تم التوافق على تخصيص ساعة أسبوعية كاملة لدرس الدين” وبالتالي ترك “التوزيع والمضمون لسلطة ولاستنسابية الطوائف ومدراء المدارس فاختلفت وجهات النظر والاستراتيجيات الخاصة لكل مدرسة وهذا يتنافى ويتعارض تماما مع التعليم الرسمي الذي ينص على ضرورة تنشئة مجتمع على قيم مشتركة وهذه مشكلة خطيرة جدا”.

أين يكمن الحل؟

في الختام، يبقى السؤال معلقا: كيف يجب على الدولة التعامل مع هذه المسألة؟ من الناحية التربوية، لمسنا التناقض بين الدعوات لتغذية القيم المشتركة والإنفصام على أرض الواقع حيث تكرّس حسابات الطائفة والحزب وتطغى على حسابات منظومة المجموعة. فهل يكمن الحل في القانون؟ تشدد كرم على ضرورة وجود استراتيجية تشريعية كاملة وإلا ستبقى “الاستنسابية وغياب الرقابة والاختلافات الخطيرة والجوهرية بالانتظام العام اللبناني”، وقد دلت التجربة على  “أن غياب هذه الرقابة تشكل ثغرة بالنسبة للسيادة اللبنانية”. وبالتالي، “يجب تعزيز دور الدولة وإنشاء منظومة كاملة بما فيها إجراء مسح كامل على مضمون وتوزيع وأهداف التعليم الديني ورسم سياسة واستراتيجية عامة ومشتركة له”.

هذا وإلا يبقى التعليم الديني كصندوق “باندورا”.. يأسر في الظاهر ولكنه يهدد باجترار الويلات إن لم يتم التعامل معه بالشكل الصحيح..

إشكالية حرية التعبير وجرم ازدراء الأديان: خدشٌ لمعتقد الآخر أم حريةٌ في التعبير؟

رواد باره | الدبلوم الجامعي في الأديان والإعلام

أصبحت حرية الرأي والتعبير في عصرنا الراهن حقاً مصاناً من حقوق الإنسان التي تعزز قدسيته وفرادته، هذه الحرية ليست مطلقة إنما تخضع لحدودٍ وقيودٍ تحفظ كرامة الآخرين ومعتقداتهم، لا سيما فيما يمس الذات الإلهية وديانة الآخرين التي لطالما كانت من أكثر الموضوعات جدليةً وحساسيةً في هذا الصدد. لكن كيف هو الحال في العالم العربي؟ هل يتمتع أصحاب الرأي من فنانين وإعلاميين وغيرهم بهذه الحرية في ظل تأثير المؤسسات الدينية الكبير وردات فعل بعض الأفراد؟ هل حالات المنع والتقييد لهذه الأصوات تقوم دائماً على أسس شرعيةٍ ومنطقيةٍ منسجمةٍ مع القوانين المحلية والدولية؟.

المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تقول: “لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل”. بالنسبة للدول الأطراف في العهد الدولي، فإن هذه المادة ملزمة قانوناً. أي أن أيّة دولة تقمع حرية التعبير أو تتجاوز قوانينها والقيود المنصوص عليها في المادة تنتهك حقوق شعبها.  إضافةً إلى العديد من المواثيق الدولية الأخرى من الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان واجتهادات المحكمة الأوربية العليا لحقوق الإنسان حول هذا الحق، بالمقابل تم وضع محددات شرعية عن حق الدول في تقييد حرية التعبير، بشرط أن تكون هذه المقيدات بهدف محدد، مثل ضمان احترام حقوق الناس، وحماية الأمن القومي أو النظام العام للآداب العامة، أو أن يكون قيداً ضرورياً وديمقراطياً، أو يمنع الدعاية للحرب، أو منعاً لما يشجع على العنصرية والكراهية العرقية أو الدينية.

حين نتناول الموضوع على الصعيد العربي من حيث المبدأ، لا بدّ أننا متفقون جميعاً أننا نتجاوز حقنا في التعبير عندما نؤذي آخرين، وعلى أن حرية التعبير حين تنال الشعور الديني للآخرين أو الذات الإلهية بشكلٍ جليّ لا بدّ أن تكون مقيّدة، بهدف درء الفتنة والنعرات الطائفية التي تشكّل خطورة على استقرار مجتمعنا العربي بسبب حساسية هذا الموضوع في المنطقة على وجه الخصوص. هناك العديد من قضايا المنع تحت مظلة جرم ازدراء الدين أو المسّ بالذات الإلهية، إما عن طريق تأثير المؤسسات الدينية ولجوئها إلى الجهات القضائية في السعي لتطبيق المنع، أو عن طريق أفراد وأنشطة خارج السلطة القضائية تمارس قمعها للدوافع نفسها. وقد يطال هذا التقييد والمنع أحياناً أعلاماً كبار في عالمنا العربي، كان حريّ بالمسؤولين أن يكونوا فخورين بهم ويسعون لدعمهم بتأمين مساحةٍ أكبر من الحرية لهم.

لعلّ المثال الأكبر الذي يستحضرنا هنا هو القضية التي هزت العالم العربي والوسط الأدبي وطرحت السؤال من جديد حول حرية التعبير والخطر الذي قد يتعرض له أصحاب الرأي، حين تعرض الكاتب المصري الكبير نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل في الآداب فى أكتوبر 1995 لمحاولة اغتيال على يد شابين، حين طُعن في رقبته لاتهامه بالكفر والخروج عن الملة بسبب روايته المثيرة للجدل “أولاد حارتنا”. بعد نجاته علّق محفوظ أنه غير حاقدٍ على من حاول قتله، ولربما كان تعقيبه إشارةً إلى أن محفوظ لا يلوم الشابين، بل يشير إلى الجهة أو المؤسسة التي أوصلتهما إلى هذه العقلية وإلى التصرف بهذه الوحشية بدافع الاتهام بالكفر، وإلى خطورة تأثير هذه الجهات.

على الصعيد المحلي اللبناني تتعدد النصوص في قانون المطبوعات والإعلام وقانون العقوبات التي تتناول تجريم الأفعال التي قد تؤدي إلى اثارة النعرات الطائفية أو على تحقير الشعائر الدينية والذات الإلهية، أهمها المواد 317 – 473 – 474 من قانون العقوبات. ومن الأمثلة التي تعرّض لها أصحاب الرأي إلى محاولات لتقييد أعمالهم حين تم تحويل الفنان مارسيل خليفة للقضاء بتهمة الإساءة إلى الإسلام بسبب تلحين وغناء قصيدة “أنا يوسف يا أبي” التي كتبها الشاعر محمود درويش، لأنها تتضمن آية قرآنية من سورة يوسف. القضاء اللبناني برّأ مارسيل خليفة من التهمة وقتها بسبب النقص في الأدلة، كما تعرّض الموسيقي بشار خليفة – نجل مارسيل خليفة – لقرار صدر عن الأمن اللبناني العام يمنع توزيع ألبومه الغنائي في لبنان بتهمة الإساءة إلى العزة الإلهية لمجرّد أنه يؤدّي الأغنية مجزّئاً كلمة “ارحمنا” إلى قسمين في غنائها.

تعد القضية الأحدث في هذا السياق حادثة منع الفرقة الموسيقية اللبنانية (مشروع ليلى) من الغناء في مهرجان بيبلوس في صيف 2019.  بعد ضغوط مارستها المراجع المسيحية، الإكليريكية الرسمية والرعايا وبعض الجماعات، إذ شنّوا حملةً ضد الفرقة في القضاء والإعلام ووسائل التواصل، وتوجّه بعض المؤيدين لهذا القرار لخطابات التهديد والوعيد ضد الفرقة، وحتى أن البعض هدد بشكل مباشر باستعمال العنف في حال صعدت الفرقة على مسرح بيبلوس. قُدم إخبارٌ أمام النيابة العامة ضد الحفلة بتهمة «إهانة المقدّسات والمسّ بالأديان وإثارة النعرات الطائفية»؛ ومنعاً لإراقة الدماء تم على إثرها تحويل أفرادٍ من الفرقة إلى التحقيق، ومن ثم صدر قرارٌ بإيقاف الحفل وبحذف أغنيتين للفرقة من موقع يوتيوب. بالمقابل توجّهت منظمات حقوقية عدة للتنديد بهذا القرار ومناصرة الفرقة، من بينها منظمة العفو الدولية. الفرقة التي تحقق نجاحات كبيرة على أهم المسارح العالمية تعرضت إلى المنع في دولٍ عربية عدة منها الأردن ومصر، وأخيراً على أرض الوطن.

ويتساءل البعض هنا: الأغنيتان التي دفعت هذه الجهات للتحرك ضد الفرقة موجودة على يوتيوب منذ سنوات لم يتحرّك أحد في محاولة منعها سابقاً وقد أدّت الفرقة العديد من الحفلات في لبنان سابقاً، فهل الأعمال كانت فعلاً ترقى لأن تعتبر جرماً يمسّ الشعور الديني أو الذات الإلهية؟ أم أن هذا الانطباع وردّ الفعل خُلق نتيجة لتحرك المؤسسات الدينية وخطابها؟، وهل القرار القضائي بالمنع ساهم فعلاً بعدم إثارة النعرات وتجنّب العنف أم أنه على العكس قد دفع بعض الشباب المتحمس للتهديد والدفاع عن الدين بطريقة عنيفة، وكأنه أمرٌ شرعيّ يبيحه القانون تحت ذريعة الدفاع عن المعتقد الديني كما رأينا في حادثة محاولة اغتيال نجيب محفوظ؟.

بالنظر إلى القضايا السابقة وغيرها، نلحظ العديد من الآثار السلبية لهذه التحرّكات. فمن المنطلق الديني، الإيمان والمعتقد الديني القويم المرتكز على أسسٍ قوية ليس بحاجة لمحاربة فنانين وكتّاب وكأنهم يثيرون الذعر لمجرد تقديم أعمالٍ معينة قد لا ترقى لتصنيفها على أنها جرم يمسّ الشعور الديني؛ إنما قد يعطي انطباعاً عكسيّاً بهشاشة الإيمان والمعتقد لدرجة احتياجه إلى حرّاس حماية يتحركون أوتوماتيكياً ضد أي أعمال قد تتناوله بأي شكلٍ كان، حتى ولو راعت حدود التعدي الصريح على المعتقد الديني، لا سيما أننا في عصرٍ يمكننا فيه الوصول إلى أي محتوى عن طريق الإنترنت مهما ازدادت شراسة المنع والتقييد. وبدل أن تسهم هذه التحركات في خلق السلم المجتمعي قد تؤدي إلى خلق قناعةٍ أن رد الفعل العنفي من فئات معنيّة في المجتمع هو حق مشروع، بسبب الخطابات الدينية التي قد تأخذُ قالباً تحريضياً من قبل رجال الدين وزيادة وهم خدش الشعور الديني من دون أسباب حقيقية.

ويُطرح هنا تساؤلٌ عن مدى انسجام شرعيّة دوافع ومساعي تقييد حرية التعبير أو قرارات المنع القضائية مع الشرائع والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي استعرضناها في البداية، حتى ولو صدرت بقرارات قضائية، وعن مدى نزاهة القضاء وهيبة دولة القانون التي تستطيع أن تحكم بشكل شرعي مدني يتناسب مع حقوق الإنسان، بعيداً عن ضغوط المؤسسة الدينية؛ وهذا ما يظهر مؤشراً خطيراً حول تنامي وسائل القمع وتقويض حرية التعبير كما حدث في لبنان، إذ أنه وفقاً لإحصاءات رسمية فإن مؤشرات قمع حرية التعبير تشهد ازدياداً كبيراً في السنوات الأخيرة بعد أن كان يُحسب للبنان أنه من أكثر الدول العربية احتراماً للحريات، مما يؤثر بالتالي على المظهر الثقافي العام والحضاري للبلد وعلى الإعلاميين والفنانين والناشطين، ويضرب بشكلٍ ما حالة الإبداع العامة فيه.

في ظل الجدلية هذه لا بدّ أن يكون هناك بعض التوصيات والحلول المرجوّة لدرء النزاعات التي قد تُخلَق بين الفئات المختلفة سعياً لحفظ حقوق كلّ الأطراف. منها ضرورة إعادة النظر بالنصوص القانونية والإجراءات الإدارية والصلاحيات الرقابية للمؤسسات لتحديد نطاق الحرية والقيود المقابلة لها، وضمان هيبة القانون وقوّته بشكل مستقل غير خاضع لضغوط المؤسسات الدينية، ويساهم بأن تخضع قيود حرية التعبير للمعايير الدولية لحقوق الإنسان، وتشكيل لجنة قانونية محايدة من قانونيين ورجال دين معتدلين لتوضيح محددات حرية التعبير وقيودها في صدد جرم ازدراء الأديان حسب كل حالة وقضية بشكل خاص؛ وكذلك ضرورة تفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني المناصرة لحقوق الإنسان في التعبير ودور المؤسسات التعليمية لرفع الوعي حول مفاهيم تقبّل الرأي الآخر وحوار الأديان ومفاهيم الرموز الدينية واحترام معتقدات الغير.

الوباء ما بين العلم والغيب

بلال العبد الله | الدبلوم الجامعي في الأديان والإعلام

مالئ الدنيا وشاغل الناس! إنه ليس المتنبي الذي قيل بحقه هذا الوصف، بل إنه فيروس الكورونا أو كوفيد 19 الذي أُعلنت بسببه حالة طوارئ عالمية. لم يبق مكان في العالم بمنأى عن هذا الغازي الجديد، وهو ما استدعى حالة استنفار من قبل حكومات العالم عبر حث مواطنيها على اتخاذ إجراءات وقائية والالتزام بقراراتها حول هذا الأمر، ودفع شركات الأدوية ومراكز الأبحاث لإيجاد لقاح أو علاج لهذا الفيروس.

في عالمنا العربي، كانت استجابات الناس متنوعة اتجاه هذا الفيروس، وإن كان القاسم المشترك بين معظمهم هو الخوف والترقب. ومع وجود بعض مظاهر اللامبالاة، إلا أن الكثيرين سعوا إلى تحصين أنفسهم عبر التزود بالمعقمات والكمامات أو عدم مغادرة بيوتهم إلا للضرورة القصوى. ولم يكن الكورونا بعيداً عن الاستخدام السياسي، هناك من انساق وراء ربط هذا الفيروس بمؤامرات أمريكية أو صينية أو غير ذلك، وهناك من ذهب إلى أن هذا الفيروس هو عقاب إلهي للصين لما تقوم به بحق أقلية الأيغور المسلمة.

ثمة من استسلم لبعض المعتقدات الشعبية أو “الدينية” من أجل مواجهة وباء الكورونا، أو لإبداء الرأي حوله. هناك من قصد المزارات وأضرحة الأولياء ظناً بأنها قادرة على حمايتهم وإبعاد الكورونا عنهم. وكان لافتاً ما لاقته بعض الإجراءات الحكومية التي قضت بإغلاق دور العبادة، من معارضة وغضب عند بعض المتدينين، وذلك تحت حجج مختلفة، لعل أهمها هو أن بيوت الله يجب ألا تغلق أبوابها. ولا يخل هذا الغضب عند البعض من أبعاد سياسية حيث يتم الربط بين الاحتجاج على إغلاق دور العبادة والاحتجاج السياسي على الأنظمة التي كانت وراء ذلك.

وعن استسلام البعض لهذه المعتقدات أمثلة: وهو أخذ التراب عن قبر القديس مارشربل بحجة أنه يشفي المرضى من كورونا. بالمقابل كان هناك العديد من الأصوات الرافضة لهذا النوع من التدين ومثال على ذلك موقف الأب جاد شبلي اليسوعي الذي نشره على فيسبوك حول هذا النوع من التدين وحمل السلطة الكنسية المسؤولية نتيجةً لتقاعسها عن أداء واجبها منذ سنين.

هذا النوع من التدين ليس حكرا على دين أو طائفة بعينها، فمن الواجب ذكر موقف دار الإفتاء المصرية الذي نشرته على حسابها على تويتر ويدور حول ذات الفكرة ولكن بتفاصيل مختلفة ومضمونه: “انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي قصة تدعي بأن من يجد شعره في المصحف في سورة البقرة يضعها في الماء ويشربها فهي شفاء من فيروس كورونا وننبه على أن هذا الأمر من الخرافات وعلى كل مواطن أن يتبع التعليمات الصحية الموضحة من وزارة الصحة وألا يلتفت إلى مثل هذه الخرافات.”

التوظيف الطائفي بدوره كان حاضراً، وهنا تحضر إيران ذات الأغلبية الشيعية، حيث استغل البعض انتشار الوباء فيها ليظهر فيروس كورونا وكأنه أحد جند الله الذي سلّطه على العصاة. وفي ذات السياق انتشر فيديو من العراق لمنشد يلقي اللوم على “النواصب” لأنهم كانوا وراء ظهور الكورونا.

إن لهذا النوع من التدين أسباب عديدة ينتج عنها مغالطات أو خرافات تؤدي إلى نتائج لا يحمد عقباها ومن هذه الأسباب: الجهل والتعميم والأحكام المسبقة وأحيانا طريقة التفكير التي تلعب دوراً مهما ًكالإيمان بنظرية المؤامرة.

ولهذه الأسباب عوامل يتوفر لها المناخ المناسب لانتشارها كغياب الرقابة الحكومية وغياب دورها في التوعية الطبية لحساب انتشار الخرافات وأيضاً انخفاض مستوى التعليم الذي يتناسب مع ازدياد معدلات الأمية بين الناس. وبالتالي النتائج كارثية كابتعاد الناس عن المشورة الطبية الاحترافية وهذا يساهم في انتشار الأمراض بشكل خطير.

لا توجد أي مؤشرات إلى المدة التي ستنتهي خلالها هذه المحنة، ولكن لابد أن نأخذ العبرة المرجوة وخاصة أن هذا الوباء شكل تحدٍ كبير للإنسان، وتركنا أمام أسئلة كثيرة نطرحها على أنفسنا محاولين إيجاد أجوبة واقعية.

يجب أن تكون الخطوات القادمة هي الخطوات التأسيسية لعالم جديد، هذه الخطوات على المنظور البعيد يجب أن تعتمد تطوير المناهج التعليمة، ويتم ذلك عن طريق اعتماد الأسس العلمية في انشائها وتطويرها تمهيدا لنقلها للأجيال القادمة. أما من منظور قريب فالأجدى بالمنظمات الدولية تكثيف التوعية ونشرها في الأماكن الأكثر عرضة للإهمال وخطر التفشي، ومن الواجب تقوية القطاع الطبي وتوجيه جميع ميزانيات التسليح الهائلة إلى ميزانيات تخدم مشاريع الأبحاث العلمية والطبية ومشاريع لإصلاح الخلل الذي أحدثه الإنسان في الطبيعة، لعلنا بذلك نتجنب كوارث كثيرة وخطيرة.

حجر وإيمان!!

روني القنصل | الدبلوم الجامعي في الأديان والإعلام

مع الانتشار المتزايد لفيروس كورونا “كوفيد-19” حول العالم وما نجم عنه من مخاوف غير مسبوقة، دخلت الديانات السماوية على الخط لتقديم إرشادات وتعليمات  لتابعيها حول كيفية الوقاية من الفيروس والتصدي له.

فبعد إعلان  الحكومة الإيطالية حالة الطوارئ في البلاد أعلن الفاتيكان، السبت 7 آذار2020، أن البابا فرانسيس قرر إقامة صلاة الأحد بالبث المباشر عبر الإنترنت، وذلك على خلفية المخاوف المرتبطة بتفشي فيروس كورونا الجديد. وبعد أسبوع أعلن الفاتيكان أن كافة صلوات عيد الفصح هذه السنة ستجری في ساحة القديس بطرس بدون مشاركة المصلين على خلفية تفشي فيروس كورونا المستجد. وأوضح الفاتيكان أنه “حتى 12 نيسان، كل اللقاءات العامة وصلوات التبشير التي يجريها قداسة البابا ستكون متوفرة فقط عبر البث المباشر على موقع أخبار الفاتيكان الرسمي”.

وفي ظل هذا الإغلاق الرسمي للكنائس باشرت بعض الكنائس بإيجاد بدائل عن حضور المصلين  للصلوات حيث كانت إحدى تلك البدائل  إنشاء صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، كصفحة الأرثوذكسية في زمن الكورونا على الفيس بوك التي تهدف إلى تسهيل متابعة الصلوات اليومية والخدمة الروحية ونقل القرارات الكنسية المتعلقة بهذه المرحلة الدقيقة.

إضافة إلى ذلك أطلق بعض الشبان تحدي “إيمانك بقويني” على الفيس بوك حيث يقوم الناشر بنشر آية أو مجموعة من الآيات من الكتاب المقدس والإشارة إلى شخص أخر ليقوم بنشر آيات آخرى ومتابعة هذا التحدي لينتشر بشكل أوسع. ويهدف ذلك التحدي إلى زيادة قراءة الكتاب المقدس لدى العوام في هذه الفترة العصيبة  وفي ظل غياب الصلوات والكنائس.

وبخصوص هذه البدائل علقت الباحثة الاجتماعية رولا تلحوق – دكتورة في جامعة القديس يوسف، بيروت – بأن النقطتين جيدتين لأن الهدف هو مساعدة الناس على الصلاة ففي النقطة الأولى الهدف هو متابعة الصلوات الليتورجية تحت رعاية الكهنة، أما النقطة الثانية هدفها متابعة قراءة الكتاب المقدس.

وهنا يجب السؤال إلى متى ستبقى الشعائر الدينية معلقة؟؟ والأهم من ذلك: إلى متى ستبقى قوة الإيمان مزروعة في قلوبنا وتشجعنا على إيجاد حلول وبدائل في فترة انقطاعنا عن الصلوات والكنائس؟؟