إشكالية حرية التعبير وجرم ازدراء الأديان: خدشٌ لمعتقد الآخر أم حريةٌ في التعبير؟

رواد باره | الدبلوم الجامعي في الأديان والإعلام

أصبحت حرية الرأي والتعبير في عصرنا الراهن حقاً مصاناً من حقوق الإنسان التي تعزز قدسيته وفرادته، هذه الحرية ليست مطلقة إنما تخضع لحدودٍ وقيودٍ تحفظ كرامة الآخرين ومعتقداتهم، لا سيما فيما يمس الذات الإلهية وديانة الآخرين التي لطالما كانت من أكثر الموضوعات جدليةً وحساسيةً في هذا الصدد. لكن كيف هو الحال في العالم العربي؟ هل يتمتع أصحاب الرأي من فنانين وإعلاميين وغيرهم بهذه الحرية في ظل تأثير المؤسسات الدينية الكبير وردات فعل بعض الأفراد؟ هل حالات المنع والتقييد لهذه الأصوات تقوم دائماً على أسس شرعيةٍ ومنطقيةٍ منسجمةٍ مع القوانين المحلية والدولية؟.

المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تقول: “لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل”. بالنسبة للدول الأطراف في العهد الدولي، فإن هذه المادة ملزمة قانوناً. أي أن أيّة دولة تقمع حرية التعبير أو تتجاوز قوانينها والقيود المنصوص عليها في المادة تنتهك حقوق شعبها.  إضافةً إلى العديد من المواثيق الدولية الأخرى من الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان واجتهادات المحكمة الأوربية العليا لحقوق الإنسان حول هذا الحق، بالمقابل تم وضع محددات شرعية عن حق الدول في تقييد حرية التعبير، بشرط أن تكون هذه المقيدات بهدف محدد، مثل ضمان احترام حقوق الناس، وحماية الأمن القومي أو النظام العام للآداب العامة، أو أن يكون قيداً ضرورياً وديمقراطياً، أو يمنع الدعاية للحرب، أو منعاً لما يشجع على العنصرية والكراهية العرقية أو الدينية.

حين نتناول الموضوع على الصعيد العربي من حيث المبدأ، لا بدّ أننا متفقون جميعاً أننا نتجاوز حقنا في التعبير عندما نؤذي آخرين، وعلى أن حرية التعبير حين تنال الشعور الديني للآخرين أو الذات الإلهية بشكلٍ جليّ لا بدّ أن تكون مقيّدة، بهدف درء الفتنة والنعرات الطائفية التي تشكّل خطورة على استقرار مجتمعنا العربي بسبب حساسية هذا الموضوع في المنطقة على وجه الخصوص. هناك العديد من قضايا المنع تحت مظلة جرم ازدراء الدين أو المسّ بالذات الإلهية، إما عن طريق تأثير المؤسسات الدينية ولجوئها إلى الجهات القضائية في السعي لتطبيق المنع، أو عن طريق أفراد وأنشطة خارج السلطة القضائية تمارس قمعها للدوافع نفسها. وقد يطال هذا التقييد والمنع أحياناً أعلاماً كبار في عالمنا العربي، كان حريّ بالمسؤولين أن يكونوا فخورين بهم ويسعون لدعمهم بتأمين مساحةٍ أكبر من الحرية لهم.

لعلّ المثال الأكبر الذي يستحضرنا هنا هو القضية التي هزت العالم العربي والوسط الأدبي وطرحت السؤال من جديد حول حرية التعبير والخطر الذي قد يتعرض له أصحاب الرأي، حين تعرض الكاتب المصري الكبير نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل في الآداب فى أكتوبر 1995 لمحاولة اغتيال على يد شابين، حين طُعن في رقبته لاتهامه بالكفر والخروج عن الملة بسبب روايته المثيرة للجدل “أولاد حارتنا”. بعد نجاته علّق محفوظ أنه غير حاقدٍ على من حاول قتله، ولربما كان تعقيبه إشارةً إلى أن محفوظ لا يلوم الشابين، بل يشير إلى الجهة أو المؤسسة التي أوصلتهما إلى هذه العقلية وإلى التصرف بهذه الوحشية بدافع الاتهام بالكفر، وإلى خطورة تأثير هذه الجهات.

على الصعيد المحلي اللبناني تتعدد النصوص في قانون المطبوعات والإعلام وقانون العقوبات التي تتناول تجريم الأفعال التي قد تؤدي إلى اثارة النعرات الطائفية أو على تحقير الشعائر الدينية والذات الإلهية، أهمها المواد 317 – 473 – 474 من قانون العقوبات. ومن الأمثلة التي تعرّض لها أصحاب الرأي إلى محاولات لتقييد أعمالهم حين تم تحويل الفنان مارسيل خليفة للقضاء بتهمة الإساءة إلى الإسلام بسبب تلحين وغناء قصيدة “أنا يوسف يا أبي” التي كتبها الشاعر محمود درويش، لأنها تتضمن آية قرآنية من سورة يوسف. القضاء اللبناني برّأ مارسيل خليفة من التهمة وقتها بسبب النقص في الأدلة، كما تعرّض الموسيقي بشار خليفة – نجل مارسيل خليفة – لقرار صدر عن الأمن اللبناني العام يمنع توزيع ألبومه الغنائي في لبنان بتهمة الإساءة إلى العزة الإلهية لمجرّد أنه يؤدّي الأغنية مجزّئاً كلمة “ارحمنا” إلى قسمين في غنائها.

تعد القضية الأحدث في هذا السياق حادثة منع الفرقة الموسيقية اللبنانية (مشروع ليلى) من الغناء في مهرجان بيبلوس في صيف 2019.  بعد ضغوط مارستها المراجع المسيحية، الإكليريكية الرسمية والرعايا وبعض الجماعات، إذ شنّوا حملةً ضد الفرقة في القضاء والإعلام ووسائل التواصل، وتوجّه بعض المؤيدين لهذا القرار لخطابات التهديد والوعيد ضد الفرقة، وحتى أن البعض هدد بشكل مباشر باستعمال العنف في حال صعدت الفرقة على مسرح بيبلوس. قُدم إخبارٌ أمام النيابة العامة ضد الحفلة بتهمة «إهانة المقدّسات والمسّ بالأديان وإثارة النعرات الطائفية»؛ ومنعاً لإراقة الدماء تم على إثرها تحويل أفرادٍ من الفرقة إلى التحقيق، ومن ثم صدر قرارٌ بإيقاف الحفل وبحذف أغنيتين للفرقة من موقع يوتيوب. بالمقابل توجّهت منظمات حقوقية عدة للتنديد بهذا القرار ومناصرة الفرقة، من بينها منظمة العفو الدولية. الفرقة التي تحقق نجاحات كبيرة على أهم المسارح العالمية تعرضت إلى المنع في دولٍ عربية عدة منها الأردن ومصر، وأخيراً على أرض الوطن.

ويتساءل البعض هنا: الأغنيتان التي دفعت هذه الجهات للتحرك ضد الفرقة موجودة على يوتيوب منذ سنوات لم يتحرّك أحد في محاولة منعها سابقاً وقد أدّت الفرقة العديد من الحفلات في لبنان سابقاً، فهل الأعمال كانت فعلاً ترقى لأن تعتبر جرماً يمسّ الشعور الديني أو الذات الإلهية؟ أم أن هذا الانطباع وردّ الفعل خُلق نتيجة لتحرك المؤسسات الدينية وخطابها؟، وهل القرار القضائي بالمنع ساهم فعلاً بعدم إثارة النعرات وتجنّب العنف أم أنه على العكس قد دفع بعض الشباب المتحمس للتهديد والدفاع عن الدين بطريقة عنيفة، وكأنه أمرٌ شرعيّ يبيحه القانون تحت ذريعة الدفاع عن المعتقد الديني كما رأينا في حادثة محاولة اغتيال نجيب محفوظ؟.

بالنظر إلى القضايا السابقة وغيرها، نلحظ العديد من الآثار السلبية لهذه التحرّكات. فمن المنطلق الديني، الإيمان والمعتقد الديني القويم المرتكز على أسسٍ قوية ليس بحاجة لمحاربة فنانين وكتّاب وكأنهم يثيرون الذعر لمجرد تقديم أعمالٍ معينة قد لا ترقى لتصنيفها على أنها جرم يمسّ الشعور الديني؛ إنما قد يعطي انطباعاً عكسيّاً بهشاشة الإيمان والمعتقد لدرجة احتياجه إلى حرّاس حماية يتحركون أوتوماتيكياً ضد أي أعمال قد تتناوله بأي شكلٍ كان، حتى ولو راعت حدود التعدي الصريح على المعتقد الديني، لا سيما أننا في عصرٍ يمكننا فيه الوصول إلى أي محتوى عن طريق الإنترنت مهما ازدادت شراسة المنع والتقييد. وبدل أن تسهم هذه التحركات في خلق السلم المجتمعي قد تؤدي إلى خلق قناعةٍ أن رد الفعل العنفي من فئات معنيّة في المجتمع هو حق مشروع، بسبب الخطابات الدينية التي قد تأخذُ قالباً تحريضياً من قبل رجال الدين وزيادة وهم خدش الشعور الديني من دون أسباب حقيقية.

ويُطرح هنا تساؤلٌ عن مدى انسجام شرعيّة دوافع ومساعي تقييد حرية التعبير أو قرارات المنع القضائية مع الشرائع والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي استعرضناها في البداية، حتى ولو صدرت بقرارات قضائية، وعن مدى نزاهة القضاء وهيبة دولة القانون التي تستطيع أن تحكم بشكل شرعي مدني يتناسب مع حقوق الإنسان، بعيداً عن ضغوط المؤسسة الدينية؛ وهذا ما يظهر مؤشراً خطيراً حول تنامي وسائل القمع وتقويض حرية التعبير كما حدث في لبنان، إذ أنه وفقاً لإحصاءات رسمية فإن مؤشرات قمع حرية التعبير تشهد ازدياداً كبيراً في السنوات الأخيرة بعد أن كان يُحسب للبنان أنه من أكثر الدول العربية احتراماً للحريات، مما يؤثر بالتالي على المظهر الثقافي العام والحضاري للبلد وعلى الإعلاميين والفنانين والناشطين، ويضرب بشكلٍ ما حالة الإبداع العامة فيه.

في ظل الجدلية هذه لا بدّ أن يكون هناك بعض التوصيات والحلول المرجوّة لدرء النزاعات التي قد تُخلَق بين الفئات المختلفة سعياً لحفظ حقوق كلّ الأطراف. منها ضرورة إعادة النظر بالنصوص القانونية والإجراءات الإدارية والصلاحيات الرقابية للمؤسسات لتحديد نطاق الحرية والقيود المقابلة لها، وضمان هيبة القانون وقوّته بشكل مستقل غير خاضع لضغوط المؤسسات الدينية، ويساهم بأن تخضع قيود حرية التعبير للمعايير الدولية لحقوق الإنسان، وتشكيل لجنة قانونية محايدة من قانونيين ورجال دين معتدلين لتوضيح محددات حرية التعبير وقيودها في صدد جرم ازدراء الأديان حسب كل حالة وقضية بشكل خاص؛ وكذلك ضرورة تفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني المناصرة لحقوق الإنسان في التعبير ودور المؤسسات التعليمية لرفع الوعي حول مفاهيم تقبّل الرأي الآخر وحوار الأديان ومفاهيم الرموز الدينية واحترام معتقدات الغير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *