حسنا بو حرفوش | الدبلوم الجامعي في الأديان والإعلام
قد لا يخطر ببال أحد بأن لبنان الذي يتغنى بالتعددية والتلون الطائفي والمساحة المكرسة ظاهريا “للآخر” يعاني من نقمة كل هذه النعم. فبلد الأرز مقسوم بين 18 طائفة تضم أقليات كبرى وأقليات صغرى. ويعود هذا التنوع لجذور تاريخية وسنين طويلة من اللجوء والهجرة والتنقل بداعي العمل إلى هذه الضفة من البحر الأبيض المتوسط (للمزيد بالإمكان قراءة بحث مارون حداد حول الطوائف- ارشيف جريدة الشرق الاوسط) ولا يمكن الكلام عن بلد بهذه التعددية وهذا الاختلاف الطائفي دون طرح السؤال حول التربية والتعليم الديني خصوصا على مستوى المدارس. فما هو واقع هذا التعليم؟ “موضوع شائك وخطر داهم” هي العبارة التي يجمع عليها ذوو الاختصاص من خلال إجابتهم على عدد متشعب من الأسئلة تستطلع صوت الاعتدال متمثلا بمشروع عابر للطوائف وترتبط بالأحداث الدموية التي طبعت تاريخ لبنان الحديث (الحرب الأهلية) ونظرة القانون لمشروع التعليم الديني. فالتعليم الديني يكاد يشبه حقلا للألغام لناحية استثماره من قبل الجماعات ذات الميول الطائفية والسياسية الواضحة والتي تسعى من خلاله للتعبئة حتى نراه يتجسد بشكل صارخ في بعض المدارس بينما يكاد يختفي في البعض الآخر…
التعليم الديني: التناقض على الأرض وصوت الاعتدال
لقد شهد لبنان في السنوات الماضية عددا متزايدا من المنتديات التعليمية التي ناقشت قضية التعليم الديني في البلاد وعلى أن المشاركين أجمعوا دائما على ضرورة التمسك بهذا التعليم بصفته ناقلا للمنظومة الأخلاقية وللقيم التي تثري تربية الأجيال القادمة، إلا أن الديبلوماسية تبقى سيدة الموقف. فعلى الأرض تختلف الأصوات كثيرا خصوصا فيما يتعلق بالمدارس التي تضم طلابا من انتماءات دينية متلونة. تقول زينة التي تلقت تعليمها في إحدى المدارس “المحسوبة على الطائفة المسيحية”: “في الصف ثلاثون تلميذا تقريبا من أديان مختلفة ولم تكن حصة الدين للجميع. في الواقع، كنا نخرج إلى الملعب بينما يتلقى زملاؤنا حصتهم الدينية الأسبوعية. قيل لنا حينها أننا لا نشارك (وقد كانت لنا مطلق الحرية بالمشاركة) نزولا عند طلب الأهل الذين خافوا من تأثير هذه الدروس على إيماننا”.
ولا تقتصر تجليات هذا الانقسام على الطلاب فهي تتجسد مع الأسف في الجسم التعليمي حيث قد لا نجد في بعض المدارس الدينية تقبلا لإدماج أساتذة من دين آخر أو من “درجة تديّن أقل” خصوصا وأن المدارس غالبا ما تتواجد في مناطق تضم الأكثريات الدينية التي تشبهها. تروي فاطمة التي حصلت للتو على شهادتها الجامعية: “بدأت بالبحث عن المدارس الأقرب لمنزلي للتدرب قبل التقدم بطلب للعمل. عملت في إحدى المدارس ذات التوجه الإسلامي. لم يسمح لي بوضع الماكياج أو بطلاء أظافري ولا بارتداء الكعب العالي أو بتزيين شعري مع أن المادة التي أعطيها لا علاقة لها بالدين”. والمشكلة لم تطل الطلاب فقط وإنما امتدت لتشمل بعض الأهالي الذين يمتعضون من “الضغط عليهم خلال اجتماعات الأهل وتقديم النصائح لهم بخصوص الأمور الشخصية كالملبس”.
في غمرة هذا التناقض بين الدعوات للحفاظ على منظومة القيم والتطرف في التطبيق على الأرض، كان لا بد من البحث عن صوت الاعتدال المتمثل حاليا في المشاريع الساعية لإيجاد مساحة مشتركة بين الأديان في جميع المجالات. الباحثة والأستاذة الجامعية ديانا ملاعب التي أمضت سنينا وهي تؤسس وتعمل على هذا النوع من المشاريع، تصارح بتحفظها على “التعليم الديني ضمن المقرر الدراسي…لأن المضمون والأطر المتبعة خاضعة لمزاج وتوجه كل إدارة مدرسية طالما أن الدستور كفل للطوائف هذا الحق …وطالما ان نسبة كبيرة من مدارسنا تابعة للطوائف… والقسم الاكبر منها يعتبر ان التعليم والتربية الدينية جزءا هاما من رسالتها التربوية، نلحظ أن هذه الصفوف تفرض كجزء من المنهج على كثير من التلاميذ الذي لا يرغب أهلهم بها أو لأنهم من طوائف أخرى… بل في أحيان كثيرة يتم وضع علامات على مادة التعليم الديني وتحتسب من ضمن مجموع العلامات ولكافة التلاميذ ولو كانوا من ديانة أخرى.”
كلام ملاعب يعيد توجيه البوصلة نحو قضية هامة يتوقف عليها التعليم الديني: المناهج. وهنا يبدو هذا النوع من التعليم سيفا يمتلك حدين، فالحاجة ملحة لضبط المناهج من جهة ولكن من جهة أخرى تطرح الإشكالية حول المرجعية الرسمية الحقيقة التي يمكن تكليفها بهذا الموضوع لتوجيه الأساتذة والطلاب على حد سواء. تقول ملاعب: “التعليم الديني واقع معاش…وتتحدد مضامينه عادة بما توافق عليه المرجعيات الدينية المسؤولة. لكن الحلقة الأهم تبقى الأستاذ الذي يقدم المضمون الديني وفي أية أطر ومسارات يأخذ تلاميذه”.
من التعليم الديني إلى الثقافة الدينية
فإذا، الموضوع مرتبط بالهدف من التعليم الديني بادىء ذي بدء. فهل التعليم الديني وسيلة للتربية على المحبة واحترام الآخر أم وسيلة لتغذية الاحتقان المذهبي والتشكيك بمعتقدات شركاء الوطن؟ أصوات الاعتدال تنادي على سبيل ملاعب لـ”استثمار التعليم الديني عبر إدخال مفاهيم كالتنوع والتعددية والمواطنة وقبول الآخر الخ…. ضمن الصفوف لكونها مفاهيم جامعة وعالمية وإنسانية مشتركة”. كما تقترح “تخصيص ساعات’ للثقافة الدينية’ أو ‘علم الاديان’ للتعرف على الأديان والطوائف الأخرى داخل كل بلد، وعن الأديان والثقافات في العالم ككل، ليتعرف التلاميذ على الآخر من دون نمطيات وأفكار مسبقة وليثمنوا التعددية التي نعيشها اليوم في زمن التواصل اللامحدود”.
وتتقاطع آراء الساعين لأيجاد مساحة مشتركة بين الأديان لناحية التركيز على الأديان كمنبع للأخلاق. انطلاقا من توصيات مركز “تموز” للمواطنة، تشدد الباحثة والأستاذة الجامعية والحقوقية د. ماريلين كرم (التي تشرح لنا جذور المشكلة من الناحية القانونية في القسم الثاني من المقال) على ضرورة تطبيق اقتراح “إجراء مسح كامل على كافة المدارس الرسمية والخاصة لجهة مضمون حصص التعليم الديني وعلى توزيع هذه الحصص وعلى الأهداف منها للوصول إلى إمكانية إيجاد سياسة عامة ووضع استراتيجية عامة مشتركة تستند على القيم المشتركة بين كافة الأديان والطوائف باعتبارها حدا أدنى يشكل الانتظام العام اللبناني الذي لا يجوز الإخلال به”.
وتقع هذه النقطة في قلب اهتمامات عميد الدراسات الإسلامية في إحدى الجامعات اللبنانية ورئيس منتدى الاعجاز العلمي في القرآن والسنة في لبنان، د. محمد فرشوخ الذي يشدد على أن “النقطة الأساسية في التعليم الديني هي أنه إن لم يخدم غايات إنسانية إجتماعية فهو حكما تعليم تحريضي”. ولذلك، يدعو من خلال عدد من المشاريع على ضبط إيقاع الحل من خلال التركيز على المادة الثقافية والتاريخية التي يمكن أن يؤمنها التعليم المدروس والمستنير والذي لا يمس بإيمان أو بروحية العلاقة الخاصة بين الإنسان والله.
لبنان بلد الطوائف المتناحرة: تجربة الحرب الأهلية
وتعيدنا التجربة اللبنانية التي يفترض أن تتسم بالتعددية إلى الرفض المنهجي للآخر وصولا إلى محاولة إلغائه. ويترجم هذا الأمر على أرض الواقع بنقطتين رئيسيتين: عدم القدرة على التوافق على كتاب تاريخ موحد والتفاوت في التعليم الديني لناحية البرنامج المعتمد إن توفر وخضوعه على غرار المؤسسات الإعلامية للسلطة السياسية البروباغندا الخاصة بها.
أما بالنسبة للجدل حول كتاب التاريخ فهو مهم جدا في هذا السياق لسبب رئيسي وهو أن غيابه يرتبط بالأسباب نفسها التي قد تجعل من درس الدين صندوق “باندورا” يفتح الباب لخلافات كبيرة حول المفاهيم الدينية وطريقة استثمارها. والحق إنما الحرب الأهلية التي دامت 15 عاما ولا تزال نارها مستعرة تحت الرماد، اندلعت بثوب طائفي وانتهت بتقسيم مناطقي في لبنان بحسب الأكثريات الدينية التي تسكنها. مع الإشارة إلى أن جذور التعليم الديني تعود بحسب بعض الخبراء إلى ما قبل الحقبة العثمانية.
الصورة 2- اندلعت الحرب الأهلية في 13 نيسان 1975 ولم تنته حتى توقيع اتفاق الطائف في العام 1989
ومع ذلك نركز ههنا على الحرب الأهلية التي غيرت وجه لبنان وما تبعها من تقسيم للمؤسسات (ضمنها الإعلامية طبعا) بصبغة طائفية سياسية إذ أن السياسة دخلت من باب الدين حتى بدا أن الدروس الدينية مدخل لتشرب عقيدة الأحزاب، وخير دليل الصور الشائعة لسياسيين بجانب رموز دينية تضفي على خطاباتهم المزيد من الشرعية. أضف إلى ذلك أن العديد من المدارس الخاصة ممولة من جمعيات دينية ذات خلفيات مذهبية واضحة (نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، المقاصد الخيرية الاسلامية والجماعة الإسلامية في الأوساط السنية والإرساليات المسيحية التبشيرية ومبرة الإمام الخوئي والإمام الخميني وجمعيات المصطفى في الأوساط الشيعية، حيث يمكن للتفوق المدرسي أن يقود للفوز برحلة دينية إلى الأراضي الإيرانية).
على الأرض، يغيب في التعليم الرسمي منذ البدء، التكافؤ في تقديم خدمة التربية الدينية في العديد من المؤسسات التربوية الرسمية. يأسف د. فرشوخ في هذا السياق، للفروقات على مستوى التعليم الديني إن توفر لناحية اختلاف المناهج المقدمة والتي قد لا تأخذ بعين الاعتبار اختلاف الطوائف”. كما يسطّر “الإهمال الكبير على مستوى التعليم الديني في المدارس الرسمية والمشاكل الحقيقية التي تنتج عنها من نقص تغذية التكافل والتضامن الإجتماعي مقابل الاستثمار التحريضي لطرف ضد الطرف الآخر”. ولذلك أخذ على عاتقه مشروعا تعليما هادفا لتغيير صورة الإسلام السياسي والتركيز على الموضوع الإنساني الذي يغلب على الطابع الديني وتصحيح المفاهيم الخاطئة”.
القانون والتعليم الديني في بلاد الأرز: ديكتاتورية الطوائف؟
أما من الناحية القانونية، تحتل الحريات العامة وفي مقدمها حرية المعتقد مساحة كبيرة في الدستور اللبناني، وتنص الفقرة “ج” من مقدمته على أن ” لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة، وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل. ” كما تؤكد المادتان التاسعة والعاشرة من الفصل الثاني على “حرية الاعتقاد مطلقة والدولة بتأديتها فروض الاجلال لله تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب وتكفل حرية اقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها على أن لا يكون في ذلك اخلال في النظام العام وهي تضمن أيضاً للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية.” وتؤكد المادة العاشرة على حرية التعليم “ما لم يخل بالنظام العام أو ينافي الآداب أو يتعرض لكرامة أحد الاديان أو المذاهب ولا يمكن أن تمس حقوق الطوائف من جهة إنشاء مدارسها الخاصة، على أن تسير في ذلك وفقاً للأنظمة العامة التي تصدرها الدولة في شأن المعارف العمومية.”
ولأن “مقاربة المشترع للمجتمع تبدأ من التعليم” كما تلفت د. كرم، كان لا بد من استطلاع وجهة النظر القانونية لهذا الموضوع. فماذا عن المراسيم المرعية؟ بحسب كرم، كشفت التجربة حول رسم السياسات العامة المتعلقة بالتعليم الديني نوعا من “التسرع لجهة القوانين والأعراف دون وجود مخطط استراتيجي كامل لسياسة عامة تأتي ضمن إطارها المراجع والقوانين وكافة المصادر القانونية المرعية الإجراء”.
ويبدو أن نصوص الدستور لا تتقاطع مع النظام الديمقراطي شكليا والذي تعتبره كرم في المضمون انعكاسا لـ”ديكتاتورية الطوائف”، بالاستناد إلى أمثلة من الدستور الأول الصادر في العام 1926 والذي ذكر بشكل واضح بأن التعليم حر ولا يمكن أن يمس بحقوق الطوائف من جهة إنشاء المدارس الرسمية أو الخاصة. وتلفت في المادة التاسعة، انطلاقا من سلطة الدستور على كل سلطة أخرى، إلى الإقرار الواضح لحقوق الطوائف وبالتالي يتضح أن “الدولة اللبنانية سمحت لكل الطوائف بامتلاك منظومة تشريعية دينية معينة وحتى تعليمية وتثقيفية وهذا ما قد يشكل خطرا داهما لأننا نتحدث عن مجتمع وعن سياسة عامة يفترض أن تكون محصورة بيد الدولة”. وقد كرس هذا الترخيص بوثيقة الطائف التي انتهت الحرب الأهلية في العام 1989.
كما تسطّر كرم “مرحلة جديدة في تاريخ لبنان كرست في البند الثالث من الفقرة “ب” من وثيقة الطائف التي تؤكد على ضرورة الانسجام بين الدين والدولة وعلى حرية التعليم الديني وهو أمر خطير جدا”. وتنطلق من التسلسل التاريخي لتركز على “خطة النهوض التربوي في العام 1996 مع محاولة تحديث المناهج التربوية التي شددت مجددا على النظرة الدينية وتلقين الشعائر الدينية الى الطلاب من مختلف اطياف الشعب اللبناني”.
وتضيف: “لا بد من ذكر مسألة أساسية، على الرغم من التأكيد على أهمية الشعائر والتربية الدينية هناك شيء لافت في المخطط وهو عدم التأكيد على إلزامية التعليم الديني في المدارس الرسمية وهذه نقطة غاية في الأهمية بالإضافة إلى غياب توزيع الساعات في هذا الإطار ومن ثم تم التوافق على تخصيص ساعة أسبوعية كاملة لدرس الدين” وبالتالي ترك “التوزيع والمضمون لسلطة ولاستنسابية الطوائف ومدراء المدارس فاختلفت وجهات النظر والاستراتيجيات الخاصة لكل مدرسة وهذا يتنافى ويتعارض تماما مع التعليم الرسمي الذي ينص على ضرورة تنشئة مجتمع على قيم مشتركة وهذه مشكلة خطيرة جدا”.
أين يكمن الحل؟
في الختام، يبقى السؤال معلقا: كيف يجب على الدولة التعامل مع هذه المسألة؟ من الناحية التربوية، لمسنا التناقض بين الدعوات لتغذية القيم المشتركة والإنفصام على أرض الواقع حيث تكرّس حسابات الطائفة والحزب وتطغى على حسابات منظومة المجموعة. فهل يكمن الحل في القانون؟ تشدد كرم على ضرورة وجود استراتيجية تشريعية كاملة وإلا ستبقى “الاستنسابية وغياب الرقابة والاختلافات الخطيرة والجوهرية بالانتظام العام اللبناني”، وقد دلت التجربة على “أن غياب هذه الرقابة تشكل ثغرة بالنسبة للسيادة اللبنانية”. وبالتالي، “يجب تعزيز دور الدولة وإنشاء منظومة كاملة بما فيها إجراء مسح كامل على مضمون وتوزيع وأهداف التعليم الديني ورسم سياسة واستراتيجية عامة ومشتركة له”.
هذا وإلا يبقى التعليم الديني كصندوق “باندورا”.. يأسر في الظاهر ولكنه يهدد باجترار الويلات إن لم يتم التعامل معه بالشكل الصحيح..